الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.من أقوال المفسرين: .قال الفخر: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)} اعلم أن الله تعالى لما مدحه وأثنى عليه من الوجوه العشرة أردفه بذكر قصة ليبين بها أن الأحوال الواقعة في هذه القصة لا يبين شيء منها كونه عليه السلام مستحقًا للثناء والمدح العظيم.أما قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَؤُا الخصم} فهو نظير قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى} [طه: 9] وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها، ليكون داعيًا إلى الإصغاء لها والاعتبار بها، وأقول للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال أحدها: ذكر هذه القصة على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه وثانيها: دلالتها على الصغيرة وثالثها: بحيث لا تدل على الكبيرة ولا على الصغيرة.فأما القول الأول فحاصل كلامهم فيها؛ أن داود عشق امرأة أوريا، فاحتال بالوجوه الكثيرة حتى قتل زوجها ثم تزوج بها فأرسل الله إليه ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة شبيهة بواقعته، وعرضا تلك الواقعة عليه.فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنبًا، ثم تنبه لذلك فاشتغل بالتوبة.والذي أدين به وأذهب إليه أن ذلك باطل ويدل عليه وجوه الأول: أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجورًا لاستنكف منها والرجل الحشوي الخبيث الذي يقرر تلك القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من ينسبه إليها، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصوم إليه الثاني: أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته أما الأول: فأمر منكر قال صلى الله عليه وسلم: «من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه آيس من رحمة الله» وأما الثاني: فمنكر عظيم قال صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» وإن أوريا لم يسلم من داود لا في روحه ولا في منكوحه والثالث: أن الله تعالى وصف داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بالصفات العشرة المذكورة، ووصفه أيضًا بصفات كثيرة بعد ذكر هذه القصة، وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفًا بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح، ولا بأس بإعادة هذه الصفات لأجل المبالغة في البيان.فنقول أما الصفات الأولى: فهي أنه تعالى أمر محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بداود في المصابرة مع المكابدة، ولو قلنا إن داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعى في إراقة دم امرىء مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمدًا أفضل الرسل بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله.وأما الصفة الثانية: فهي أن وصفه بكونه عبدًا له، وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملًا في موقف العبودية تامًا في القيام بأداء الطاعات والاحتراز عن المحظورات، ولو قلنا إن داود عليه السلام اشتغل بتلك الأعمال الباطلة، فحينئذٍ ما كان داود كاملا في عبوديته لله تعالى بل كان كاملًا في طاعة الهوى والشهوة.الصفة الثالثة: هو قوله: {ذَا الأيد} [ص: 17] أي ذا القوة، ولا شك أن المراد منه القوة في الدين، لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في ملوك الكفار، ولا معنى للقوة في الدين إلا القوة الكاملة على أداء الواجبات، والاجتناب عن المحظورات، وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم؟الصفة الرابعة: كونه أوابًا كثير الرجوع إلى الله تعالى، وكيف يليق هذا بمن يكون قلبه مشغوفًا بالقتل والفجور؟.الصفة الخامسة: قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ} [ص: 18] أفترى أنه سخرت له الجبال ليتخذه وسيلة إلى القتل والفجور؟.الصفة السادسة: قوله: {والطير مَحْشُورَةً} [ص: 19]، وقيل إنه كان محرمًا عليه صيد شيء من الطير وكيف يعقل أن يكون الطير آمنًا منه ولا ينجو منه الرجل المسلم على روحه ومنكوحه؟.الصفة السابعة: قوله: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} ومحال أن يكون المراد أنه تعالى شدد ملكه بأسباب الدنيا، بل المراد أنه تعالى شد ملكه بما يقوي الدين وأسباب سعادة الآخرة، والمراد تشديد ملكه في الدين والدنيا ومن لا يملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك؟.الصفة الثامنة: قوله تعالى: {وءاتيناه الحكمة وَفَصْلَ الخطاب} [ص: 20] والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علمًا وعملًا، فكيف يجوز أن يقول الله تعالى: إنا {ءاتيناه الحكمة وَفَصْلَ الخطاب} مع إصراره على ما يستنكف عنه الخبيث الشيطان من مزاحمة أخلص أصحابه في الروح والمنكوح، فهذه الصفات المذكورة قبل شرح تلك القصة دالة على براءة ساحته عن تلك الأكاذيب.وأما الصفات المذكورة بعد ذكر القصة فهي عشرة الأول: قوله: {وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} وذكر هذا الكلام إنما يناسب لو دلت القصة المتقدمة على قوته في طاعة الله، أما لو كانت القصة المتقدمة دالة على سعيه في القتل والفجور لم يكن قوله: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى} لائقًا به الثاني: قوله تعالى: {يا داود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً في الأرض} وهذا يدل على كذب تلك القصة من وجوه أحدهما: أن الملك الكبير إذا حكى عن بعض عبيده أنه قصد دماء الناس وأموالهم وأزواجهم فبعد فراغه من شرح القصة على ملأ من الناس يقبح منه أن يقول عقيبه أيها العبد إني فوضت إليك خلافتي ونيابتي، وذلك لأن ذكر تلك القبائح والأفعال المنكرة يناسب الزجر والحجر، فأما جعله نائبًا وخليفة لنفسه فذلك ألبتة مما لا يليق وثانيها: أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللًا بذلك الوصف، فلما حكى الله تعالى عنه تلك الواقعة القبيحة، ثم قال بعده: {إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً في الأرض} أشعر هذا بأن الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعال المنكرة؛ ومعلوم أن هذا فاسد، أما لو ذكر تلك القصة على وجوه تدل على براءة ساحته عن المعاصي والذنوب وعلى شدة مصابرته على طاعة الله تعالى فحينئذٍ يناسب أن يذكر عقيبه.{إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً في الأرض} [ص: 26] فثبت أن هذا الذي نختاره أولى والثالث: وهو أنه لما كانت مقدمة الآية دالة على مدح داود عليه السلام وتعظيمه ومؤخرتها أيضًا دالة على ذلك، فلو كانت الواسطة دالة على القبائح والمعائب لجرى مجرى أن يقال فلان عظيم الدرجة عالي المرتبة في طاعة الله يقتل ويزني ويسرق وقد جعله الله خليفة في أرضه وصوب أحكامه، وكما أن هذا الكلام مما لا يليق بالعاقل فكذا ههنا، ومن المعلوم أن ذكر العشق والسعي في القتل من أعظم أبواب العيوب والرابع: وهو أن القائلين بهذا القول ذكروا في هذه الرواية أن داود عليه السلام تمنى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية مثل ما حصل للخليل من الإلقاء في النار وحصل للذبيح من الذبح وحصل ليعقوب من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب فأوحى الله إليه أنهم إنما وجدوا تلك الدرجات لأنهم لما ابتلوا صبروا فعند ذلك سأل داود عليه السلام الابتلاء، فأوحى الله إليه أنك ستبلى في يوم كذا فبالغ في الاحتزاز ثم وقعت الواقعة، فنقول أول حكايتهم يدل على أن الله تعالى يبتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه فالسعي في قتل أول حكايتهم يدل على أن الله تعالى بيتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه فالسعي في قتل النفس بغير الحق والإفراط في العشق كيف يليق بهذه الحالة، ويثبت أن الحكاية التي ذكروها يناقض أولها آخرها الخامس: أن داود عليه السلام قال: {وَإِنَّ كَثِيرًا مّنَ الخلطاء لَيَبْغِى بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ إِلاَّ الذين ءامَنُواْ} استثنى الذين آمنوا عن البغي، فلو قلنا إنه كان موصوفًا بالبغي لزم أن يقال إنه حكم بعدم الإيمان على نفسه وذلك باطل السادس: حضرت في بعض المجالس وحضر فيه بعض أكابر الملوك وكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيئة لسبب اقتضى ذلك، فقلت له لا شك أن داود عليه السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل، ولقد قال الله تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ومن مدحه الله تعالى بمثل هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ الطعن فيه، وأيضًا فبتقدير أنه ما كان نبيًا فلا شك أنه كان مسلمًا، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تذكروا موتاكم إلا بخير» ثم على تقدير أنا لا نلتفت إلى شيء من هذه الدلائل إلا أنا نقول إن من المعلوم بالضرورة أن بتقدير أن تكون القصة التي ذكرتموها حقيقية صحيحة فإن روايتها وذكرها لا يوجب شيئًا من الثواب، لأن إشاعة الفاحشة إن لم توجب العقاب فلا أقل من أن لا توجب الثواب، وأما بتقدير أن تكون هذه القصة باطلة فاسدة، فإن ذاكرها يستحق أعظم العقاب والواقعة التي هذا شأنها وصفتها، فإن صريح العقل يوجب السكوت عنها فثبت أن الحق ما ذهبنا إليه، وأن شرح تلك القصة محرم محظور فلما سمع ذلك الملك هذا الكلام سكت.ولم يذكر شيئًا السابع: أن ذكر هذه القصة، وذكر قصة يوسف عليه السلام يقتضي إشاعة الفاحشة فوجب أن يكون محرمًا لقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة في الذين ءامَنُواْ} [النور: 19] الثامن: لو سعى داود في قتل ذلك الرجل لدخل تحت قوله: «من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه آيس من رحمة الله» وأيضًا لو فعل ذلك لكان ظالمًا فكان يدخل تحت قوله: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} التاسع: عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: «من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين» وهو حد الفرية على الأنبياء، ومما يقوي هذا أنهم لما قالوا إن المغيرة بن شعبة زنى وشهد ثلاثة من عدول الصحابة بذلك، وأما الرابع فإنه لم يقل بأني رأيت ذلك العمل.يعني فإن عمر بن الخطاب كذب أولئك الثلاثة وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة لأجل أنهم قذفوا، وإذا كان الحال في واحد من آحاد الصحابة كذلك، فكيف الحال مع داود عليه السلام مع أنه من أكابر الأنبياء عليهم السلام العاشر: روي أن بعضهم ذكر هذه القصة على ما في كتاب الله تعالى فقال لا ينبغي أن يزاد عليها، وإن كانت الواقعة على ما ذكرت، ثم إنه تعالى لم يذكرها لأجل أن يستر تلك الواقعة على داود عليه السلام، فلا يجوز للعاقل أن يسعى في هتك ذلك الستر بعد ألف سنة أو أقل أو أكثر فقال عمر: سماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس فثبت بهذه الوجوه التي ذكرناها أن القصة التي ذكروها فاسدة باطلة، فإن قال قائل: إن كثيرًا من أكابر المحدثين والمفسرين ذكروا هذه القصة، فكيف الحال فيها؟ فالجواب الحقيقي أنه لما وقع التعارض بين الدلائل القاطعة وبين خبر واحد من أخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القاطعة أولى، وأيضًا فالأصل براءة الذمة، وأيضًا فلما تعارض دليل التحريم والتحليل كان جانب التحريم أولى، وأيضًا طريقة الاحتياط توجب ترجيح قولنا، وأيضًا فنحن نعلم بالضرورة أن بتقدير وقوع هذه الواقعة لا يقول الله لنا يوم القيامة لم لم تسعوا في تشهير هذه الواقعة؟ وأما بتقدير كونها باطلة فإن علينا في ذكرها أعظم العقاب، وأيضًا فقال عليه السلام: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد» وههنا لم يحصل العلم ولا الظن في صحة هذه الحكاية، بل الدلائل القاهرة التي ذكرناها قائمة فوجب أن لا تجوز الشهادة بها، وأيضًا كل المفسرين لم يتفقوا على هذا القول بل الأكثرون المحقون والمحققون منهم يردونه ويحكمون عليه بالكذب والفساد، وأيضًا إذا تعارضت أقوال المفسرين والمحدثين فيه تساقطت وبقي الرجوع إلى الدلائل التي ذكرناها فهذا تمام الكلام في هذه القصة.أما الاحتمال الثاني: وهو أن تحمل هذه القصة على وجه يوجب حصول الصغيرة ولا يوجب حصول الكبيرة، فنقول في كيفية هذه القصة على هذا التقدير وجوه الأول: أن هذه المرأة خطبها أوريا فأجابوه ثم خطبها داود فأثره أهلها، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه الثاني: قالوا إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في هذا ذنب ألبتة، أما وقوع بصره عليها من غير قصد فذلك ليس بذنب، وأما حصول الميل عقيب النظر فليس أيضًا ذنبًا لأن هذا الميل ليس في وسعه، فلا يكون مكلفًا به بل لما اتفق أن قتل زوجها لم يتأذ تأذيًا عظيمًا بسبب قتله لأجل أنه طمع أن يتزوج بتلك المرأة فحصلت الزلة بسبب هذا المعنى وهو أنه لم يشق عليه قتل ذلك الرجل والثالث: أنه كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضًا أن يطلق امرأته حتى يتزوجها وكانت عادتهم في هذا المعنى مألوفة معروفة أوى أن الأنصار كانوا يساوون المهاجرين بهذا المعنى فاتفق أن عين داود عليه السلام وقعت على تلك المرأة فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان فقيل له هذا وإن كان جائزًا في ظاهر الشريعة، إلا أنه لا يليق بك، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهذه وجوه ثلاثة لو حملنا هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حق داود عليه السلام إلا ترك الأفضل والأولى.وأما الاحتمال الثالث: وهو أن هذه القصة على وجه لا يلزم إلحاق الكبيرة والصغيرة بداود عليه السلام، بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح أعظم أنواع المدح والثناء به وهو أن نقول روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليه السلام، وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوروا المحراب، فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقوامًا يمنعونه منهم فخافوا فوضعوا كذبًا، فقالوا خصمان بغى بعضنا على بعض إلى آخر القصة، وليس في لفظ القرآن ما يمكن أن يحتج به في إلحاق الذنب بداود إلا ألفاظ أربعة أحدهما: قوله: {وَظَنَّ داود أَنَّمَا فتناه} وثانيها: قوله تعالى: {فاستغفر ربه} وثالثها: قوله: {وَأَنَابَ} ورابعها: قوله: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك} ثم نقول، وهذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكروه، وتقريره من وجوه الأول: أنهم لما دخلوا عليه لطلب قتله بهذا الطريق، وعلم داود عليه السلام ذلك دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم، إلا أنه قال إلى الصفح والتجاوز عنهم طلبًا لمرضاة الله، قال وكانت هذه الواقعة هي الفتنة لأنها جارية مجرى الابتلاء والامتحان، ثم إنه استغفر ربه مما هم به من الانتقام منهم وتاب عن ذلك الهم وأناب، فغفر له ذلك القدر من الهم والعزم والثاني: أنه وإن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه، إلا أنه ندم على ذلك الظن، وقال: لما لم تقم دلالة ولا أمارة على أن الأمر كذلك، فبئسما علمت بهم حيث ظننت بهم هذا الظن الرديء، فكان هذا هو المراد من قوله: {وَظَنَّ داود أَنَّمَا فتناه فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} منه فغفر الله له ذلك الثالث: أن دخولهم عليه كان فتنة لداود عليه السلام، إلا أنه عليه السلام استغفر لذلك الداخل العازم على قتله، كما قال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: {واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} [محمد: 19] فداود عليه السلام استغفر لهم وأناب، أي رجع إلى الله تعالى في طلب مغفرة ذلك الداخل القاصد للقتل، وقوله: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذلك} أي غفرنا له ذلك الذنب لأجل احترام داود ولتعظيمه، كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى: {لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ} [الفتح: 2] أن معناه أن الله تعالى يغفر لك ولأجلك ما تقدم من ذنب أمتك الرابع: هب أنه تاب داود عليه السلام عن زلة صدرت منه، لكن لا نسلم أن تلك الزلة وقعت بسبب المرأة، فلم لا يجوز أن يقال إن تلك الزلة إنما حصلت، لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الخصم الثاني، فإنه لما قال: {لَقَدِ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ} فحكم عليه بكونه ظالمًا بمجرد دعوى الخصم بغير بينة، لكون هذا الحكم مخالفًا للصواب، فعند هذا اشتغل بالاستغفار والتوبة، إلا أن هذا في باب ترك الأفضل والأولى فثبت بهذه البيانات أنا إذا حملنا هذه الآيات على هذا الوجه، فإنه لا يلزم إسناد شيء من الذنوب إلى داود عليه السلام، بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطاعات إليه، ثم نقول وحمل الآية عليه أولى لوجوه الأول: أن الأصل في حال المسلم البعد عن المناهي، لاسيما وهو رجل من أكابر الأنبياء والرسل والثاني: أنه أحوط والثالث: أنه تعالى قال في أول الآية لمحمد صلى الله عليه وسلم: {واصبر على مَا يَقُولُونَ واذكر عَبْدَنَا داود} [ص: 17] فإن قوم محمد عليه السلام لما أظهروا السفاهة حيث قالوا: {هذا ساحر كَذَّابٌ} [ص: 4] واستهزأوا به حيث قالوا: {رَبَّنَا عَجّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب} [ص: 16] فقال تعالى في أول الآية: اصبر يا محمد على سفاهتهم وتحمل وتحلم ولا تظهر الغضب واذكر عبدنا داود، فهذا الذكر إنما يحسن إذا كان داود عليه السلام قد صبر على إيذائهم وتحمل سفاهتهم وحلم ولم يظهر الطيش والغضب، وهذا المعنى إنما يحصل إذا حملنا الآية على ما ذكرناه، أما إذا حملناها على ما ذكروه صار الكلام متناقضًا فاسدًا والرابع: أن تلك الرواية إنما تتمشى إذا قلنا الخصمان كانا ملكين، ولما كانا من الملائكة وما كان بينهما مخاصمة وما بغى أحدهما على الآخر كان قولهما خصمان بغى بعضنا على بعض كذبًا، فهذه الرواية لا تتم إلا بشيئين أحدهما: إسناد الكذب إلى الملائكة والثاني: أن يتوسل بإسناد الكذب إلى الملائكة إلى إسناد أفحش القبائح إلى رجل كبير من أكابر الأنبياء، فأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا استغنينا عن إسناد الكذب إلى الملائكة، وعن إسناد القبيح إلى الأنبياء، فكان قولنا أولى، فهذا ما عندنا في هذا الباب، والله أعلم بأسرار كلامه، ونرجع الآن إلى تفسير الآيات.
|